رمضان .. ربيع القلوب
منقول:
يكتب كثير من الناس عن رمضان؛ شهر الصوم الكريم، كلامًا مثيرًا يملأ الصفحات، ويقول كثير من الناس عنه كلامًا كثيرًا يملأ الأثير والآفاق، ولا أظنني سأضيف جديدًا إلى ما قالوا ويقولون، ولكنني سأحاول أن أنظر إلى هذا الشهر المبارك من زاوية خاصة ترى فيه جانبًا من جوانب الإشراق التي تضيء النفس من الداخل، وتجدد فيها عناصر القوة الروحية والنفسية، لتواجه الواقع من خلال الارتباط بالخالق سبحانه وتعالى، وتوثيق هذا الارتباط، بما يحرر المسلم من قيود المادة، والعبودية لغيره جل شأنه وعلا.
يقول تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)? (البقرة)، والآية الكريمة تتناول تشريع الصيام وفرضيته، والغاية منه التي تتمثل في قوله تعالى: ?لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?.
والتقوى هي الرجاء الذي يرجوه الحق سبحانه وتعالى من عباده المؤمنين، ويأمل أن يتحقق بصيامهم رمضان، وتعريفات التقوى كثيرة، ولكن أشملها من وجهة نظري ما قاله الإمام علي بن أبي طالب في تعريفها: "الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل".
وفي هذا التعريف دلالات كثيرة تستحق الوقوف عندها، ويمكن أن نوجزها في جمل محدودة.
فالخوف من الله هو طبيعة الإيمان السليم، وهو اقتراب القلب المسلم من الخالق جل وعلا، وهو الطريق إلى الالتزام بالطاعات، وترك المنكرات، إنه ربيع القلب المؤمن الذي يضيء بالإيمان في أرقى صوره وأفضل معانيه، ويكفي أن يكون القلب موصولاً بخالقه على الدوام، وهذه هو سر الرجاء في الآية الكريمة- كما أتصور- في قوله تعالى: ?لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?.
ومن عنصر التقوى كما عرَّفها علي بن أبي طالب "العمل بالتنزيل" أو الوحي؛ سواء كان القرآن الكريم أو التطبيق العملي القائم في سنة النبي- صلى الله عليه وسلم- من قول أو عمل أو إقرار، والعمل بالوحي أقصر الطرق ليكون المسلم أقرب إلى ربه سبحانه، وأبعد عن مضاعفات البؤس والشقاء التي يصنعها البعد عن التنزيل، ومعطيات الوحي.
ويأتي العنصر الأخير بالاستعداد ليوم الرحيل، أي يوم الموت والانتقال إلى العالم الآخر، بما يمثله هذا الاستعداد من حرص على المزيد من الطاعات والبعد عن المنكرات ما ظهر منها وما بطن، والزهد في عرض الدنيا الزائل، وعدم التهافت عليه كما يفعل أولئك الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
والصوم في رمضان يمثل نقلة نوعية في حياة المسلم، إذ تتفتح أمامه سبل السلام والسكينة والاطمئنان، ويغدق عليه الشهر الكريم من خيرات الله ما لا يحصى من الطيبات المعنوية والمادية، ولنتأمل قوله تعالى: ?شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)? (البقرة).
القرآن هو أول وأكبر خيرات الله التي لا ينقطع مددها عن المسلم في السراء والضراء، بما فيه من الهدى والبينات، والقرآن ليس مجرد آياتٍ تُتلى هنا أو هناك، ولكنه وفقًا للآية الكريمة، هدى وفرقان، والهدى هو انطلاق الروح نحو آفاق العمل والأمل على أساس الاستقامة والوضوح والأمن الروحي والنفسي، أما الفرقان فهو الفصل بين الحق والباطل، وبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وبذا يستريح القلب المؤمن وهو يسعى لإرضاء ربه، والعمل من أجل لقائه، أو الاستعداد للرحيل كما تقضي التقوى من المسلم، أو كما تقضي الاستفادة من صيام رمضان ?لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?.
وحول صوم رمضان نجد تراثًا هائلاً من الأحاديث النبوية الشريفة تدور من قريب أو بعيد حول ربيع القلوب الذي يصنعه صوم رمضان في حياة المسلم سنويًّا، وتجديد خلاياه الروحية والبيولوجية أيضًا.
من هذه الأحاديث؛ ما ورد عن ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ؛ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل- عليه السلام- كان أجود بالخير من الريح المرسلة.
والحديث الشريف أوضح من أن يُفسَّر، ولكن دلالاته تشير إلى تلك الخيرات الغامرة التي يحملها شهر الصوم المبارك، وهو الجود بالخير، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في رمضان، بل أجود بالخير من الريح المرسلة التي تحمل المطر والغيث، فيخضر الزرع والضرع، ويأكل الإنسان والحيوان ويشربان.
ويلاحظ أن لقاء جبريل- عليه السلام - بالنبي صلى الله عليه وسلم كان لمدارسة القرآن الكريم حتى ينسلخ شهر رمضان، وتنتهي أيامه، وهو ما يعني أن القرآن الكريم محور شهر الصيام، بما فيه من هدى وفرقان، وأن القرآن الكريم دستور الحياة الإسلامية، يعمل به المسلم، ويطبقه في حياته اليومية والاجتماعية والإنسانية؛ ولذا كان الإشارة إلى الجود وهو العطاء، والعطاء يعني أن يقدم المسلم طواعية بعضًا مما يملك ويجود به على من يستحقون من بقية الناس ليصنع ربيعًا اجتماعيًّا يوازي ربيع القلوب.
ولعل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، قد عملوا بهذه السنة المباركة، في إخراج الصدقات والزكاة في أيام الشهر الطيب المبارك، فيعيش الفقراء والمحتاجون والضعفاء أيامًا أفضل من أيامهم السابقة، بفضل الله أولاً، ثم بفضل هذا الجود الذي يبذله المسلمون من مختلف الطبقات والفئات، لا يمنون به على غيرهم، ولا يراءون، ويصنعون ربيعًا اجتماعيًّا، يحركه ربيع القلوب الذي يعيشه الصائمون.
إن شهر رمضان هو ربيع القلوب بامتياز، لمن فقهه، وعاشه عيشة حقيقية، وجعل القرآن الكريم محور تفكيره وتطبيقه..